728x90 شفرة ادسنس

  • اخر الاخبار

    الجمعة، 12 فبراير 2021

    “لبنان الاشتراكي” ظهور جماعةٍ من شبيبة “اليسار الجديد” ومسارها في لبنان الستّينات[1]

     



    أحمد بيضون

     

    في وقتٍ ما من سنة 1964، انعقد اجتماعٌ في بيروت قيّض له أن يستوي نوعاً من خرافةِ أصلٍ لجماعة ماركسية صغيرة نشأت منه: وهي تنظيم “لبنان الاشتراكي”. اشترك في الاجتماع سبعة أشخاص هذه أسماؤهم: وضاح شرارة، فوّاز طرابلسي، وداد شختورة، محمود سويد، الزوجان كريستيان ومادونا غازي، أحمد الزين. بعد ذلك بسنةٍ (أو باثنتين، على الأكثر) كان الأربعة الأوّلون لا يزالون ماضين في السبيل الذي افتتحوه فيما كان الثلاثة الآخرون قد غادروا الركب عملياً. بين هؤلاء الأربعة، بقي وضّاح وفوّاز أكثر الجماعة حرصاً على إبقاء الشعلة المقدّسة موقدةً أي، فوق كلّ شيءٍ، على تدبيج النصوص المؤسّسة للتنظيم وعلى تنشئة القادمين الجدد وعلى متابعة الصلات الآيلة إلى تنمية الجماعة. كان محمود سويد مستغرقاً إلى حدّ بعيد في العمل الصحافي: في أسبوعية الأسبوع العربي أوّلاً ثم في مؤسّسة الدراسات الفلسطينية. لذا بقيت مسؤولياته محدودة في الجماعة التي كانت قد أخذت تدعو نفسها “التنظيم”. وأما وداد شختورة التي كانت تتّخذ التدريس حرفةً لها، فكانت ناشطة في نقابة المعلّمين في المدارس الخاصّة قبل أن تمسي، في آخر مطافٍ امتدّ أعواماً كثيرة، قيادية في التيّار اليساري من الحركة النسائية اللبنانية.

    إذا اتّخذْنا مشهد هذا الاجتماع وحده محلّ نظر استوقفنا تنوّع المجموعة المؤسّسة على غير صعيد. فإذا قصرنا انتباهنا على أولئك الذين ثابروا إلى ما بعد مرحلة الانطلاق هذه لم نملك ألا نلاحظ تفرّقهم على الخريطة الطائفية اللبنانية وكذلك بين مناطق البلاد. فشرارة من مواليد العام 1942 في عائلة شيعية. وهو من بنت جبيل في جنوب لبنان أصلاً ولكن والديه، في وسط الستينات الذي ننظر منه، كانا قد انفصلا وتزوّج كلاهما زواجاً ثانياً من زمن طويل وأصبحا مقيمين في بيروت. ويحصى في أسرة والده معمّمون ومعهم أو من بينهم متأدّبون على النهج “الحديث”. وكان والده، في مبتدإ أمره، مدرّساً وكان إلى ذلك كاتباً ومترجماً معروفاً ثمّ أصبح، لعهد طويل، عضواً في الجهاز الفنّي لدار الكتب الوطنية وآلت إليه في أواخر حياته المهنية إدارتها. وأما والدة وضاح فهي عسيرانية من صيدا وكانت مدرّسة في القطاع الرسمي هي الأخرى. وكان وضّاح قد حصّل منحة من الحكومة اللبنانية أتاحت له دراسة لعلم النفس في ليون أنهاها في سنة 1963. وعلى أثر عودته إلى بيروت أصبح مدرّساً متعاقداً في المدرسة العاملية، وهي شيعية التابعية، قبل أن يدخل سلك التعليم الرسمي مدرّساً للفلسفة في الثانويات. وكان يتولّى أيضاً أعمال ترجمة متفرّقة تنشرها دار الطليعة التي كان يملكها بشير الداعوق المنتسب إذ ذاك إلى حزب البعث. وأما طرابلسي فهو من مشغرة في البقاع أصلاً. وتنتمي والدته إلى الفرع الأرثوذكسي الزحلي من آل المعلوف إذ هي ابنة المؤرّخ المشهور عيسى اسكندر وشقيقة الشاعرين فوزي وشفيق. وأما والده، وهو كاثوليكي المذهب، فكان يملك فندقاً معروفاً في بحمدون يقصده مصطافون متنوّعو المصادر من لبنانيين وسوريين وعراقيين ومصريين، إلخ.، ومن بينهم ساسة وفنانون واسعو الشهرة. ولد فوّاز سنة 1941 وأتمّ دراسته ما قبل الجامعية في الثانوية العلمانية الفرنسية في بيروت ثم في مدرسة برمّانا العالية وهذه أسسها الكويكرز الإنكليز في القرن التاسع عشر. وبعد عامين في مانشستر درس فيهما الاقتصاد السياسي، عاد إلى بيروت ودرس العلوم السياسية في جامعتها الأميركية. ولا ريب أن وضاح وفواز (ونصيب الأوّل من هذا أكبر من نصيب الثاني) كانا الشخصين اللذين أملى نشاطهما على الجماعة الصغيرة أبرز سماتها وهو نشاط بُذل في آن معاً في التحليل النظري والسياسي وفي كسب الملتحقين الجدد وتنشئتهم. وأمّا وداد شختورة فهي متحدّرة من أسرة كاثوليكية صيداوية المنبت. وأما “بكر” التنظيم، محمود سويد وهو مولود في سنة 1935، فهو ابن شيخ سنّي من قرية كفرحمام في العرقوب، أي في الطرف الجنوبي الشرقي من البلاد. وكان محمود عند إنشاء التنظيم – وقد أشرنا إلى ذلك – صحافياً متفرّغاً… وكان هو ووضاح وفوّاز قادمين، ثلاثتهم، من “ماضٍ” حزبيّ بعثي.

    كان هذا التنوّع في المجموعة التي أطلقت مشروع “لبنان الاشتراكي” يعبّر، على نحوٍ ما، عن مزاجٍ ميّز شبيبة بعينها، تلقّت إعداداً غربيّ المشرب. ولكنّه كان أيضاً، من زوايا أخرى، تنوّعاً خادعاً إلى حدٍّ ما. فهو لا يعكس بأمانة واقع الصورة التي ستتّخذها المجموعة بالتدريج في الأعوام الأربعة أو الخمسة التالية بنتيجة الجهود التي بذلها المؤسّسون. وهذه جهود أسعفها، على الأرجح، ما كانت تضطرب به التشكيلات القومية العربية والحزب الشيوعي اللبناني من هزّات في تلك المرحلة. وفي خريف العام 1966، اتّصلنا بالمجموعة أنا وحسن قبيسي ونصير مروّة وجمعتنا لقاءات قليلة العدد بوضاح شرارة. وكان حسن هو الذي اكتشف وجود المجموعة ومهّد للقاءات. كان نصير بعثياً قديماً اقترب من الحزب الشيوعي قبل سنوات. وقد بقي أثر وضّاح في موقفه محدوداً. وأما أنا وحسن فدخلنا في المجموعة. ولم نلبث أن ضممنا معنا صديقنا وجيه كوثراني. ثم التحق بالمجموعة المتواضعة العديد بتأثير منّا أردناه أحياناً ولم نُرِده أحياناً أخرى نفرٌ آخرون كانوا أصغر منّا سنّاً. كنا، نحن الثلاثة، من مواليد أوائل الأربعينات وكنّا مدرّسين في الثانويات الرسمية وقد خالطنا إلى هذا الحدّ أو ذاك، في أعوام دراستنا الثانوية والجامعية، أوساطاً تدين بالقومية العربية. فكنّا، بالتالي، أشباهاً، على غير صعيد، لوضّاح ولفوّاز. وكان للشبه بيني وبين هذين وجه مضافٌ لم يكن حسن ووجيه قد حصّلاه في تلك المرحلة: وهو أنني كنت قد أمضيت عامين دراسيين في باريس زاد في أهمّيتهما أنني كنت قد كرّستهما لدراسة الماركسية. وسرعان ما دعينا إلى الحلول في مواقع مسؤولية فكان أن أصبحنا، حسن وأنا، عضوين في ما كان يسمّى “هيئة التنسيق” (وهي قيادة التنظيم) وأخذنا نؤمّن، في الشقّة التي أقمنا فيها معاً، ابتداءً من صيف 1967، الإنتاج الماديّ للنشرة التي كان التنظيم يحمل اسمها. وكان حسن قد تعلّم الضرب على الآلة الكاتبة واستخدام آلة الاستنساخ (الستنسل) فيما كنت، من جهتي، أتولّى، مهمة تحرير البعض من النصوص. أصبحنا  من كتّاب النشرة أيضاً وكان العدد الأول منها قد صدر في حوالي الوقت الذي دخلنا فيه التنظيم ولكن المجموعة كانت قد أصدرت قبل ذلك عدداً من النشرات غير الموقّعة وغير المتوّجة باسم “لبنان الاشتراكي”. وإذ أنظر في أمرنا إذ ذاك بعد انقضائه، أرى أن ترقيتنا التي زامنت، على وجه التقريب، ابتعاد أحمد الزين والزوجين غازي قد عزّزت تعزيزاً ملحوظاً موقع العنصر الشيعي الجنوبي في الإدارة الفعلية لنشاط المجموعة. وكانت هذه الغلبة، من قبل هذا الوقت، كاسحة على مستوى “القاعدة”. فالحال أن الحلقتين اللتين تولّيت أمرهما في حيّ اللجا وفي النبعة كانتا مشكّلتين حصراً من شبّان شيعة جنوبيّي المنابت. وكانت هاتان الحلقتان تمثّلان، في سنة 1967، ما يقرب من نصف التنظيم ولم يكن النصف الآخر يختلف عنهما اختلافاً بيّناً لهذه الجهة. وقد أبرز وضاح شرارة هذا الواقع إبرازاً لم يخْلُ من المبالغة في مقالة جميلة نشرها في سنة 1980 وجعل لها عنواناً “الرفاق”. بقي المدينيّو الأصل والمسيحيّون والسنّة قلّة بين العناصر الذين بلغ عددهم أربعين إلى خمسين في منتصف مسار التنظيم. وفي سنة 1967، كانت السنّ المتوسطّة لأعضاء المجموعة “القيادية” نحو 25 سنة. وكان الأعضاء في الحلقات يصغروننا سنّاً بما معدّله خمس سنوات تقريباً. عليه كان يسعهم أن يكونوا (أو هم كانوا فعلاً) تلامذتنا. هل كان ذاك، على ما قرّره تشخيص منتشر، هو الجيل الثاني من كتلة الهجرة الريفية؟ يحتاج الجواب إلى تدقيق. فإن أهالي بعض المنتسبين لم يكونوا قد أصبحوا مقيمين بعد، في تلك الآونة، في بيروت أو في ضواحيها. كانت الشبيبة من ذراري هؤلاء الريفيين الصامدين تسرح وحدها، متحمّلة مسؤولية نفسها، في أرجاء بيروت الكبرى بما كانت هذه تعرضه من أضداد.

    لم تكن غلبة البعثيين القدامى بين عناصر النواة المؤسسة محض اتّفاق. بل إنها معطى تعليلي من الدرجة الولى. فنحن إذا شئنا أن نفهم ظاهرة “اليسار الجديد” أو “الأيسرية” العربية، كان علينا أن نرجع، بين ما نرجع إليه، إلى انفصال الوحدة السورية المصرية وما مثّله من زلزلة للجيل الشاب في تلك الحقبة. مهّد لهذه الزلزلة نشوب الأزمة، بُعيد نشوء الجمهورية العربية المتّحدة، في العلاقة ما بين عبد الناصر والبعث. فالذين كانوا في العشرين أو كانوا على مشارفها في سنة 1961، مثّل لهم إفلاس الوحدة صدمةً لم تكن أخفّ وطأةً على الإطلاق من تلك التي مثّلتها لهم ولمن كانوا يلونهم سنّاً هزيمة 1967. فكان أن ذهب البعثيون، على الخصوص، ومعهم آخرون كانوا يدورون في الفلك القومي أيضاً، إلى تجريم الارتجال والطابع الملفّق لهذه الوحدة بما آلت إليه الحال من انحلال لم يكن منه مناص. وسرعان ما نُسب هذا المصاب إلى الفقر النظري الذي اعتبرت الحركة القومية مصابةً به: يصحّ هذا على الحركة الناصرية، بطبيعة الحال، ولكنه يصحّ أيضاً وعلى التخصيص على حزب البعث. من هذا المنطلق، راحت تنتشر كثرةٌ من المجموعات أو أيضاً من المواقف كان يجمع بينها الرغبة في تلافي الأسباب المفترضة للحادث الجلل الذي حدث.

    وعلى وجه الإجمال، يجوز القول إن انهيار الجمهورية العربية المتّحدة كان مناسبة لاكتشاف أهمّية “المجتمعات” وضرورة معرفتها لتغييرها وضرورة التوفّر على تجهيز نظري مناسب لهذه الغاية. ولم تلبث الماركسية أن فرضت نفسها. فقد كانت حاظيةً بسمعةٍ أظهرَتْها على أنها الأداة المجرّبة التي أفلحت في إلهام ثورات صمدت في وجه الإمبريالية. وقد سارع كثير من القوميين إلى الانضواء في صفوف الحزب الشيوعي الذي وجدوه على مقربة. ولكن هذا الاختيار لم يبدُ موفور الحجّة دائماً. فإن منظر الأحزاب الشيوعية الوطنية لم يكن فيه ما يغري. كانت ظواهر التصلّب البيرقراطي فيها وتبعيتها في المضمار الدولي تبعث النفور. فوق ذلك، كانت مواقف هذه الأحزاب من مسائل حيوية جدّاً واجهت الحركة العروبية في أثناء العقدين السابقين لا تزال محلّ إشكالٍ، وكان الموقف من تقسيم فلسطين أبرز مثال لهذه المواقف. وفي الحقبة التي نتناول، أي أوائل الستينات، كانت جولات الصراع العنيف لا تزال تدمي العلاقات، في دولٍ عربية عدّة، ما بين الشيوعيين والقوى القومية. فكانت هذه القوى تنازعهم الحكم الذي كانوا مستحوذين على النصيب الأعظم منه هنا أو كانت تأبى إشراكهم فيه هناك. على هذا راح مناضلون كثيرون كان إيمانهم البعثي أو الناصري قد اضطرب يتحدّثون عن “تعريب الماركسية” أو أيضاً عن “تجديد” اليسار العربي. ولم يكن هذا الكلام ابن ساعته. فإن ميشال عفلق نفسه كان قد أعلن رغبته في إنشاء اشتراكية “نابعة من الواقع العربي”. على أن هذه الفكرة التي لم يفلح مؤسس البعث يوماً في منحها قواماً قابلاً للتطبيق لم تكن متّجهة، في تعبيرها العفلقي، إلى اجتراح صيغة معرّبة من الماركسية بل كان همّها تشكيل خيار مواجه جذرياً للخيار الماركسي. وأما الشبيبة من هاجري البعث الذين أقدموا على تأسيس “لبنان الاشتراكي” فكان توجّههم إلى الاستحواذ على الماركسية التي قدّروا أن الأحزاب الشيوعية العربية قد ابتعدت عنها. وكان متاحاً إنكار ملكية هذه الماركسية على الأحزاب الموالية للاتّحاد السوفياتي. كانت هذه الماركسية مبذولة لمن أراد وضع اليد عليها وتطويعها تطويعاً حرّاً للحالة الحسّية التي كان عليه أن يعالجها.

    ما سبق لا يعدو أن يكون رسماً بالقلم العريض لمعالم “الحبكة الفورية” التي كانت، في المدّة التي نتناول، تؤهّل أناساً بعينهم للتأمّل في إمكان الاضطلاع بمشروع “اليسار الجديد” و”تعريب الماركسية” الذي ذكرناه. كان هؤلاء البعثيون السابقون قد أنموا إحساسهم بالوقائع العربية وبوقائع بلادهم عبر مساقاتٍ من قبيل حرب الجزائر والصعود الصاعق للناصرية بعد معركة السويس ومقاومة حلف بغداد وانقلاب تمّوز 1958 في بغداد والحرب الأهلية المحدودة في لبنان سنة 1958 وبزوغ الشهابية والاضطراب المواجه للسيطرة البريطانية في جنوب الجزيرة العربية… قابل ذلك، أخيراً لا آخراً، انهيار الجمهورية العربية المتّحدة الذي بدا حاملاً رسالةَ نكوصٍ واضح يَقْلِب وجهةَ المجرى الذي كان يمكن أن تُدْرَج فيه الوقائع الآنفة الذكر طوعاً أو كرهاً.

    على أن هذه الحفنة من الشبّان اللبنانيين كانت محتاجةً إلى صفاتٍ أخرى غير صفة البعثيين التائبين ليستقيم لها الاعتقاد أنها قادرة على الاضطلاع بالمهمّة التي نسبت إلى نفسها المسؤولية عنها. أمّا ما كانوا يعدّونه جديراً بأن يستبقى من ماضيهم النضالي فكان هذا النوع من التعلّق بأولوية الحقّ العربي في تقرير المصير، وكانت هذه القضية كفيلة بإبعادهم عن الحزب الشيوعي. على أن هؤلاء الشبّان كانوا يواجهون الحزب المذكور بادّعاءٍ لرهافة الفكر ولتعدّد المراجع الفكرية وللاستقلال المعنوي المشبع باحترام الفردية وهذه كلّها أمور ينبغي الفحص عن مساق تكوّنها وعن مصادرها. فإذا نحن رجعنا اليوم إلى أدبيات “لبنان الاشتراكي” وإذا استذكرنا واقع العلاقات بين الأفراد في المجموعة، لم نجد بدّاً من ملاحظة قدْرٍ من الزيف كانت تنطوي عليه صورة الذات التي كانت تدّعيها الجماعة لنفسها ويدّعيها كلّ فردٍ منها لنفسه أيضاً. على الرغم من ذلك، كانت هذه الصورة تطلق موقفاً وأسلوباً في التصرّف وفي الكلام وتطلق، على الأخصّ، زخماً نضالياً يشي بتصديقٍ لها من جانب من قُيّض لهم الاستمرار في مشروع المجموعة المعلن على الأقلّ. وهذا التصديق هو الأهمّ، في آخر الأمر.

    من أين حصّل هؤلاء الشبّان المثقّفون تلك الثقة في جماعتهم، وكانت، في كلّ حال، ثقةً غير مانعةٍ للسخرية من الذات وللخفّة الفَكِهة؟ من أين جاؤوا – في ما يتعدّى المودّة التي كانت تطبع العلاقات بينهم في هذه المرحلة الأولى – بهذا الشعور بالتفوّق الذي كانوا يُمدّون به بعضهم بعضاً وينشرونه في أوساطٍ أتيح لهم أن يخالطوها؟ كان لا بدّ للتوصّل إلى هذا من تضافر استثنائيّ لمعطيات بعينها. من ذلك استقلال فرديّ متقدّم كان قد نال من سلطة عائلية زعزع أركانَها كثيراً ما كان جيل الأبناء قد حصده من شعور بالتفوّق وَجَد مرتكزاً له في إعدادٍ جامعي أخذ من التماسك بنصيب وردَفَتْه معرفةٌ يُعتدّ بها بلغةٍ واحدة على الأقلّ من اللغات الأوروبية. وهذه معرفة كانت تمنح صاحبها حقّ الوصول غير المحدود إلى أنظمة غربية لمعرفة المجتمعات ولفهم التاريخ فضلاً عن إتاحتها المشاركة (عبر السينما والأدب والموسيقى، إلخ.) في أذواق وقِيَمٍ يتشكّل منها العالم الثقافي للّغات المشار إليها. مذ ذاك أصبحَت الماركسية هي المكوّن المركزي وهي موقع القيادة في جملة الأنظمة المستنطَقة فسلّمنا بكونها النظام المؤهّل بين الأنظمة الأخرى لفهم تلك الأنظمة وتقويمها. كنّا صغار السنّ ولم يكن إعدادنا حزبيّ المصدر بقدر ما كان جامعيَّهُ فلم نقتنع قطّ بأن الماركسية تبطل ما يقع خارجها. كنّا نراها، بخلاف ذلك، متقوّية بما يغايرها. وهو ما ولّد ميلاً في التنظيم إلى اتّخاذ مرجعيات عدة: الوجودية، التحليل النفسي، البنيوية، إلخ. وهو ما أتاح لنا أيضاً أن نتخيّر أفكاراً وتوجّهات من تيّارات مختلفة في الفكر الماركسي لم يشتهر بعضها بالميل إلى الاعتراف بتوافقٍ ما بينه وبين البعض الآخر. وهو ما حملَنا أخيراً على استبعاد التمثّل الحَصْري بتجربةٍ ثورية معينة، مع العلم أن هذا التمثّل كان شائعاً في تلك الأيام. كنّا ننشر تعاطفنا على مساحات من العالم نحاذر تنظيمها في فكرنا وكانت تشتمل على الصين وعلى كوبا وأميركا اللاتينية وعلى فييتنام وامتدّت، لاحقاً، إلى ربيع 1968 في براغ وفي باريس. وكانت مجلّة “الأزمنة الحديثة”، التي ضمّ إليها قرّاء الإنكليزية منّا مجلّتي “نيو لفت رفيو” و”منثلي رفيو”، قويّة الحضور في العالم الفكري لمثقّفي “لبنان الاشتراكي” ومعها أسماءُ أعلامٍ اقترنت باسمها: من سارتر ودو بوفوار إلى ميرلو بونتي وغورز. ولم نكن نجهل شيئاً من المبارزات التي كانت المجلّة حلبةً لها. زاد من ذلك أن الستالينية ومعسكرات الاعتقال السوفياتية والانتفاضة المجريّة سنة 1956 والثورة الجزائرية ومكان الماركسية من الفكر المعاصر، وهي كلّها موضوعات كانت مثار أشدّ الاهتمام عند مثقّفي “لبنان الاشتراكي”، قد حلّت في موضع القلب من مواجهات الماضي ما بين كامو وسارتر وما بين هذا الأخير ومرلو بونتي وأخيراً ما بين ليفي ستروس وسارتر. كانت هذه السعة في الآفاق ومعها التعدّد الذي ذكرنا في الأطر المرجعية، تظهر في المبادلات  الشفوية ظهورها في الأدبيات المكتوبة (أو هي كانت أكثر ظهوراً في الأولى منها في الأخيرة). فكان ألتوسير يجاور تروتسكي، ولينين يعايش روزا لوكسمبورغ، وغرامشي يخالط ماو في المشافهة، فيما بقيت الأدبيات تبدي بعض الحذر من الخوض في المصادر غير المكرّسة. وكان هذا كله ينمّ بانفتاح ملحوظ لآفاق التفكير ويشي، في الوقت نفسه، بأمرين آخرين أقلّ إيجابية: الأوّل كثرة معالم التفكّك في العالم الذهني ومعه كثير من الانتقائية ومن السحر الذي كان يصدر من هنا أو هناك عن الحكايات الملحمية وعن الصور الأسطورية، والثاني هذا الظلّ من التكلّف أو من التمحّل الذي يميّز أرباب الوصولية الثقافية.

    أجدر من هذا بالإشارة أن السباحة في المياه الثقافية الغربية لم تكن ترادف، في الحالة التي نتناول، انقطاعاً عن عالم الأصل. وكان للتربة العائلية فضل كبيرٌ في جعل هذا الإنجاز ممكناً. كان يمكن الاعتماد، في لبنان الستّينات، على كون هذا الاستقطاب بين “الحديث” و”التقليدي” قد غدا ملطّفاً في الممارسة. على أن هذا لم يكن يحول دون حصول الاحتكاك المولّد للشرر ما بين العالمين في ألف موضعٍ وموضع. وإذا نحن شئنا فهماً لما أبديناه من خفّة الحركة على هذا الصعيد، كان علينا الالتفات، مثلاً، إلى أسرة وضّاح من جهة أبيه وأسرة فوّاز من جهة والدته وإلى سمعةٍ باكرة كسَبْتُها في بنت جبيل هي سمعة الفتى الشاعر والتلميذ المجلّي في اللغة العربية، إلخ. ويثير الدهشة عدد من سيصبحون مترجمين محترفين في النواة القيادية الصغيرة لـ”لبنان الاشتراكي” : وأشير هنا، على التخصيص، إلى حسن قبيسي وفوّاز طرابلسي وأشير أيضاً إلى وضّاح شرارة وإلى نفسي. فوق ذلك، ألّفنا، أنا ووضّاح، كتباً باللغتين العربية والفرنسية. والمعلوم أن الناطقين بالفرنسية والناطقين بالإنكليزية وفيرو العديد في لبنان. وأما من يتوصّلون إلى فرض أنفسهم على أنهم منشئون ذوو كفاءة في لغة الأمّ وفي إحدى اللغات الأوروبية معاً فهم من الندرة بمكان. ولا يخلو توفّرهم المركّز هذا في النواة الصغيرة لـ”لبنان الاشتراكي” من إشارةٍ إلى الصورة الطموحة التي كانت هذه المجموعة الوليدة تراها لمكانها على رقعة السياسة اللبنانية وللدور الذي كانت مدعوّة إلى الاضطلاع به، بحسب مؤسّسيها. فالحال أن هذه السمة الخاصّة، إذا قُرنت بأخرى سبق التنويه بها، كانت تؤيّد “الندرة” النسبية المميّزة إذ ذاك للعناصر القيادية في المجموعة.

    عليّ أن أشدّد أيضاً على تنوّع الأوساط التي كان البعض من عناصر النواة القيادية قد خالطوها. فهم، وقد ناهزوا الخامسة والعشرين من أعمارهم في ذلك الحين، كانوا قد أقاموا في القرى. وكانوا قد أمضوا أعواماً دراسية في مدارس داخلية ذات ألوان طائفية مغايرة لألوان منابتهم. وكانوا قد أقاموا في بيروت أيضاً وخالطوا في جامعات العاصمة، لا اللبنانيين الموزّعي الولاء جدّاً وحسب، بل العرب الشبّان الشديدي التسيّس غالباً القادمين من أقطار بعيدة بعد تونس أو اليمن أيضاً. وكان بعضهم قد زاول التدريس في مدارس متباعدة إلى هذا الحدّ أو ذاك واكتسبوا من ذلك أُلْفةً لغير منطقة من مناطق لبنان. كانت هناك أيضاً أعوام الإقامة الدراسية الكلّية الطوبى في الخارج: في مانشستر أو في ليون أو في باريس. ومن هناك كان هؤلاء الأفراد قد سافروا فاطّلعوا على بلاد وبشر وزاروا متاحف، إلخ. وبخلاف التمكّن المتساوي (أو شبه المتساوي) من لغتين، لم يكن هذا التجوال، بما يتيح جَنْيَه من غلالٍ ولا هذه الفرص لإرهاف الحسّ وزيادة الخبرة بالغير، على انحصارهما في القلة، بالشيء النادر الحصول حقّاً لأولاد الأسر البرجوازية الصغيرة في لبنان، ناهيك بأولاد الأثرياء. وهما لم يكونا نادري الحصول أيضاً، إذا ضربنا صفحاً عن المنبت الطبقي، لفتيان عرفوا كيف يقرنون حدّة الذهن والمثابرة بفرصةٍ سنحت لهم.

    وعلى كون هؤلاء المناضلين الشبّان لم يضربوا حجاباً دون من أراد لقاءهم وكانوا على جانب من التواضع ومن الاستعداد للخدمة، فإن صورتهم عن أنفسهم، وقد حصّلوها من مسارات شخصية متقاربة نوعاً ما، كانت منطوية على تقديرٍ رفيع لأنفسهم يصل إلى حدّ الشعور الواضح بضربٍ من التفوّق. فهل كانوا متفوّقين فعلاً على صعيد النظرية أو – على الأعمّ – على صعيد الثقافة؟ نجيب بـ”نعم” إذا نحن قارنّا إنتاجهم وتنوّع الحقول التي كان يشتمل عليها فضولهم بفقر الدم الذي كان يسم كلام الحزب الشيوعي اللبناني وبتشنّج لم يكن يخلو من تعبير جسدي ميّز هذا أو ذاك من أركان الحزب في حركاته وسكناته. ونجيب بـ”لا” إذا اعتبَرْنا بالفشل الواضح الذي لازم جهد المجموعة للعثورعلى مدخل إلى نسيج الوقائع اللبنانية من اجتماعية وسياسية وبالعزلة التي لازمت الجماعة عن المسرح السياسي اللبناني باستثناء ما حاولت إنشاءه من علاقاتٍ مع مجموعاتٍ صغيرة أو عناصرَ منشقّة أخرى حتى سنة 1969. فعلى الرغم من جهدٍ فكري تناول مسألة التحالفات من منطلقٍ منسوب إلى اللينينية، كانت الجماعة حابسة نفسها في حذرٍ دائم من تشكيلات اليسار “التقليدي” القائمة (ودعك من غيرها) وهو ما كان يثير حفيظة هذه التشكيلات ويجعل قبول “لبنان الاشتراكي” (الهزيل الحضور، فوق ذلك، في مواقع العمل) في أطر التعبئة المشتركة قريباً إلى المحال. وأما الأقرب إلى الواقع فهو، على ما يبدو لي، افتراض نوع من التفوّق النفسي للأفراد، أعضاء المجموعة. وهذا شعور كانت قلّة الفاعلية شرطاً له. كان التفوّق ناجماً (بخلاف ما يتقبّله نوع من أنواع الماركسية) من شعور قوي بالقيام بالذات راح يوطّده إعجاب من كانوا أحدث سنّاً من بين الرفاق أو كانوا أقلّ اقتداراً في مضمار التحليل السياسي الاجتماعي. فمن حيث الأساس، كان التنظيم، من جهة مؤسسيه، سبيلاً إلى الانعتاق أو تحرير الذات.

    ويكفي مصداقاً لذلك تفحّص النصوص المنتجة. فنلحظ فيها من النظرة الأولى ازدراءً غريباً للمنجزات الماديّة وللمكاسب الاجتماعية الاقتصادية التي تتّخذ موضوعاً للمطالبة والنضال. فما هو جوهري، في عُرف المجموعة، إنما هو التقدّم الذي يتحقق بالنضال في الوعي السياسي. وما ينبغي طلبه إنما هو تسييس النضال والمناضلين، تسييس الجمهور أو الجماعة المنخرطة في الحركة. وما عدا ذلك يبقى أقلّ أهمّية أو هو عارٍ من كلّ أهمية. بل إنه قد يكون أولى بأن يُجْتنب إذ قد ينجم عنه وعيٌ منحرف للموقف الإجمالي. وفي كلّ حال، يُفْترض أن يتحصّل تقدّم الوعي السياسي عَبْر صِيَغٍ من التنظيم القاعديّ تنشئ علاقةً جدلية ما بين المناضلين المسيّسين والجماعة المعنية أو الوسط المعنيّ بالنضال. فيمارِس هذا أو تلك، عَبْر الصيغ المشار إليها، حقّهما في التعبير الحرّ، على الأقلّ، إذا فاتتهما المبادرة الحرّة، ويبقى لهما، أيّاً كان الأمر، حقّ الرقابة الديمقراطية على القرارات التي تتّخذها القيادة. على هذا اقتُرحت صيغة “اللجان” لتنظيم النضال الطلابي ولتنمية الدعم الشعبي للمقاومة الفلسطينية، سواءً بسواء…

    كان مراد “لبنان الاشتراكي” أن يلزم ماركسيّة ماركس ولم يكن يتردّد في التنويه بما كان آخرون قد ذكّروا به وهو أن ماركس صرّح، في أواخر أيّامه، بأنه ليس ماركسياً. وكانت تلك علامةً من علامات حرصٍ (ضمنيّ، في الأقلّ) اتّسمت به عقلية المجموعة وهو الحرص على استبعاد الاعتقاد بالحتمية باعتباره اعتقاداً يطبع العمليّات العقلية بل يطبع طريقة التفكير برمّتها أيضاً. وأذكر أن رفاقي في حلقة النبعة استهجنوا مني التصريح بأن المادية العلمية وجدلية الطبيعة إنما هما إضافتان متأخرتان إلى العقيدة أضافهما إنجلز ولم يكن ماركس ليقرّهما، على الأرجح. وقد أوصل الاستياء واحداً من الرفاق إلى حدّ مقاطعة الاجتماعات مقاطعةً نهائية بعد أن اتّهم “الرفيق المسؤول” ببذر الشقاق بين الأبوين المؤسّسين.

    وقد كان الجهد المتّصل للتنديد بالمواقف السياسية النظرية التي كان يتّخذها الحزب الشيوعي اللبناني هو الطريق الإلزامي إلى ما سمّي “تجديد اليسار”. والواقع أن عمل التقويض الذي كان يفترض أن يتوجّه إلى العدو الطبقي الموصوف (أي إلى “اليمين” اللبناني وإلى الأنظمة العربية الموسومة بـ”الرجعية” وإلى الإمبريالية الغربية) لم تكن آثاره تصل إلى هذا العدوّ إلا بعد أن يكون قد استنفد جلّ قواه في الهجمات على اليسار اللبناني وعلى التشكيلات القومية العربية: على جنبلاط والشهابية وعلى الأنظمة العربية المنسوبة إلى “التقدمية” وعلى الخطّ السياسي الأممي للاتّحاد السوفياتي أخيراً لا آخراً. والحال أن تلك الأهداف كانت تمثّل مجموعاً متراتباً لم يكن يخلو من تماسك. وكان يستمدّ اللحمة الجامعة لأطرافه من العقيدة السوفياتية القائلة بالطابع التقدّمي للبرجوازية الوطنية في أقطار العالم الثالث التي تمكنت من التحرّر من القبضة المباشرة للإمبريالية.

    لا جدوى من التوسّع في أمر المآخذ التي كان “لبنان الاشتراكي” يأخذها على الحزب الشيوعي أو في أمر العناية النقدية التي أولاها للتطوّر السياسي لحركة القوميين العرب أو في أمر الجهود التي بذلها لتحديد الموقع الطبقي للسياسة الشهابية ولمكوّنها الجنبلاطي على الخصوص: وهو المكوّن الذي كان يُلزم الحركة الشعبية بموقف الحدّ الأدنى وينشر في صفوفها اضطراباً مؤذياً. وإنما الأمثل، في ما نرى، أن نُبرز ههنا سمةً أخرى من سمات المشروع الذي مثّله “لبنان الاشتراكي” وهي السمة التي تفسّر، جزئيّاً على الأقلّ، هذه الأفضلية التي منحها لنقد الأقربين. ذاك هو هاجس “التميّز”، تميّز المجموعة الذي كانت هذه الأخيرة بالغة الحرص عليه. ففي أقلّ الموضوعات خطراً وأكثرها نثرية كان “لبنان الاشتراكي” يبقى شديد العناية بالخروج على الشائع أو بالوقوف على حدة في تحديده موقفه. يستوي في ذلك ما كان انفراداً عن الحزب الشيوعي، بطبيعة الحال، وما كان افتراقاً عن سائر الأطراف الماثلة في الميدان. وحين كان المسؤول عن حلقة ما يُخفق في إبراز هذا الاختلاف لموقف المجموعة من مسألة مطروحة، كان يغامر بالتعرّض إلى السؤال المحتوم: “ولكن… أين تميّزنا، يا رفيق!؟”

    يسعنا الافتراض، على ما يزيّن لي، أن هذا “التميّز” المستولي على صورة التنظيم لنفسه جملةً كان ينتقل، بعد تأسيسه وحدة التنظيم، إلى الأفراد المشكّلين لهذا الأخير. فكان يسهم في بلورة فرديتهم. كانت المجموعة، بضآلة حجمها وبالاسترخاء الذي كان يسودها وبالشعور بأن “خطّ” التنظيم لا يزال في قيد التكوين، تستجمع سماتها هذه لتحصيل هذه النتيجة، وهي مختلفة جدّاً، في الواقع، عمّا تنتهي إليه الفردية في التشكيلات الكبيرة التي يجد فيها التشنّج الأيدلوجي صداه في مناخ التسلّط والانضباط.

    ما الذي كان هذا التفريد بواسطة الجماعة يترجمه في وضع النواة المؤسسة لـ”لبنان الاشتراكي”؟ رسمنا بخطوط عريضة صورة الانتماءات الأصلية لهذه الحفنة من الشبّان الذين حوّلوا أنفسهم إلى مجموعةٍ سياسية في بيروت في غضون السنوات الثلاث أو الأربع التي سبقت حرب 1967. في نصّ عنوانه “موادّ من أجل برنامج” أُلْحِق بالعدد العاشر من النشرة الصادر في آذار 1968، يصوغ “لبنان الاشتراكي” بعربية صريحة رأياً كانت نصوص سابقة لا تجاوز أن تشي به من قريب أو من بعيد: وهو أن النظام الاجتماعي السياسي القائم في لبنان، إذا هو قُرِن بالمعطيات الأساسية المتعلّقة باقتصاد البلاد وبدور القطاع الخارجي منه وأهميّته، على الخصوص، يستبعد أفق الثورة الاجتماعية في هذه البلاد طالما بقيت غلبة الاشتراكية على مقاليد السلطة في المحيط العربي غير متحقّقة. بعد أن يدلي الكاتب بهذا الاعتراف، يستعجل القول بوجود مهمّاتِ تنظيمٍ ديمقراطي للنضال يمكن اقتراحها ومهمّاتِ “توعيةٍ” للجماهير: يملي ذلك كلّه أن الحزب الشيوعي (ومن سواه يُلام؟) لا يستنفد إمكانات العمل المتاحة ليسارٍ خليق بهذا الاسم. في هذا السياق الذي بدا فيه ثوريو التنظيم محرومين من إمكان القيام بثورتهم، كان المشروع أقرب إلى استمداد شرعيته من إسهامه في إدراج القائمين به في أوساطٍ كان حضورهم فيها موضع اعتراض وكان موقعهم فيها موضع جدل منه إلى استمدادها من دورٍ سياسي موضوعي يُدعى هؤلاء إلى الاضطلاع به. على الصعيد المباشر، كان الانتماء إلى هذه المجموعة المقيمة على جفاءٍ لكلّ أنواع السلطة الماثلة حولها والمعادية من أعماقها للتسويات – بالرغم من الزعم المخالف في النصوص – يبدو أقرب شيء إلى الثأر من الاستلاب الذي كانت تفرضه على الأعضاء أنشطتهم المهنية (بما هم مدرّسون أو صحافيون) من أمور مخالفة لتوجّهاتهم العقلية والخلقية. وعلى مستوى أعمق، كانت المجموعة تشكّل ردّاً موائماً لقابليات الأعضاء على النَبْذ الذي كانوا يجدون أنفسهم غرضاً له من جانب مدينة هي بيروت بقيت بِناها المولّدة للسلطة مغلقةً إغلاقاً محكماً في وجوههم. في وجه هذه المدينة، رَفَعت المجموعة رمزيّاً سبّابة الماركسية الثورية المتوعّدة. وهو ما كان يتيح لهؤلاء المثقّفين أن يجبهوا رفض المدينة المعاندة لا بموقف الاستعطاف لا ولا بموقف الإغراء أيضاً بل بما هو خلاف ذلك اي بنظرةٍ ملؤها الازدراء لأسلوب الحياة الذي تعرضه ولنمط أدائها لوظائفها ولجداول قيمها. ذاك هو ما سبق أن سمّيناه مشروع “تحرير الذات” منظوراً إليه في مرآة العلاقة بالمدينة.

    على أن هذا الموقف النافر لم يكن له أن يصمد لولا دفعة صغار السنّ الذين كانوا يعْمُرون الحلقات تحت أنظار الحفنة الودودة من أركان المجموعة. كانت الغالبية العظمى من الرفاق الفتيان تلفت برتابة موائلها: فجمهرتهم كانت، وقد أشرنا إلى ذلك، من شيعة الجنوب. وكان دورهم في التنظيم متعدّد الوجوه. فقد كان عليهم أن يعدّوا أنفسهم باستيعاب ما كان يظهر في النشرة من تحليل، يضاف إلى ذلك بعض الأمّهات من أعمال ماركس ولينين خصوصاً. وكان عليهم أيضاً أن يكسبوا عناصر جديدة. وفي هذا السياق الأخير، كان دورهم يُقتصر، إجمالاً، على تمهيد السبل ثم على تأمين انعقاد الصلة بين العنصر “الاتّصال” والمسؤول عن الحلقة. أخيراً، كان على الرفاق التدخّل، على قدر المستطاع، في الأعمال النضالية، الحاصلة أو المحتملة، التي كان يمكن أن يشهدها الوسط الذي يعملون فيه أو الحيّ الذي يقيمون فيه. كان يُطلب إليهم، بطبيعة الحال، أن يتعهدوا علاقاتهم، في هذا النطاق، ليزيدوا من تأثيرهم في مجرى العمل في اتّجاه تسييس النضال وتحسين تنظيمه، بالتالي، والوصول بالمعنيّين إلى مستوىً من الوعي أرفع. وعلى الإجمال، كان عمل الإعداد السياسي هو اللون الغالب بين ألوان هذه اللوحة.

    والواقع أن هذه الوجوه الظاهرة لعمل الحلقة لم تكن تستنفد وظيفة هذه الأخيرة. فقد كان لهذه الوظيفة أيضاً وجه ذاتيّ مزدوج. فمن جهة المنتسبين الفتيان، كان الانتماء إلى المجموعة يتيح، فضلاً عن الشعور بنوع من المرجعية في وسطهم المباشر، اقتناعاً بالإسهام في مشروعٍ موعود، عَبْر مخاطرَ مفروضةٍ وتضحياتٍ لا بدّ منها، بمستقبلٍ عظيم، ويضع المشتركين فيه من اليوم في وضع انتماءٍ رمزي إلى جميع تلك الدوائر التي كان يُصْنع فيها مستقبلٌ مجيد للعالم. وكان لزوم السرّية التي اعتُبِرت فرضاً ولو ان الطعن في الفائدة العملية منها بقي ممكناً، يسهم في إدامة هذه القناعة. ومن جهة النَواة القيادية، كانت الحلقات لازمةً، بلا ريب، لإيجاد ركيزة للمشروع وإثبات جدّيته. كانت هي مواقعَ اختبار الخطّ المقترح وتركيز النفوذ المفترض للأفكار المقدّمة. وكانت هي، على الأخصّ، مساحةَ التماسّ ما بين التنظيم و”الجماهير”، وهو تماسّ ندر أن حصل ولكنه بقي مأمولاً. بهذه المثابة، كانت الحلقات تجنّب منتجي التحليل والتوجيه في المجموعة مغبّة الشعور بأن كلامهم كان يتبدّد في الهواء. وأما السؤال عمّا إذا كانت النتائج المحصّلة موعودةً بأن تصبح، ذات يوم، ذات قرابة بطموح الأهداف فكان سؤالاً لا يتعذّر إرجاؤه أو الإعراض عنه.

    … إلى أن جاءت هزيمة 1967 فأدخلت بالتدريج تحدّياتٍ جديدة إلى عالم المجموعة. وهو عالم كان، حتى ذلك الحين، هادئاً وكانت إدارته سهلةً نسبياً. سرعان ما تحوّلت الثانويات الرسمية والجامعات إلى بؤر للنشاط “القومي”. ومنذ الأشهر الأولى من سنة 1968، أعلن “لبنان الاشتراكي” تأييده الكفاح المسلّح الذي بدأت المنظّمات الفلسطينية تخوضه عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية. بعد ذلك بأشهر، نَقَع على مقالةٍ في النشرة تندّد بانكفاء المتظاهرين المؤيّدين للعمل الفلسطيني استجابةً لمزايدة لفظية من جهة رئيس الحكومة. وكان النشاط الفلسطيني قد أثار، في حينه، صداماتٍ بقيت محدودة بين المنظّمات والجيش. ولكن مسألة الدعم المحسوس للعمل الفلسطيني المسلح تضاعف إلحاحها ابتداءً من النصف الثاني من العالم 1968 وذلك عندما راح الفدائيون ينتشرون نحو الغرب متخطّين منطقة العرقوب القريبة من الحدود السورية وكانوا قد حصروا تمركزهم فيها إلى ذلك الحين. إذ ذاك راحت التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين ترفع شعارات من قبيل تسليح الأهالي في الجنوب وتحصين القرى وإنشاء الملاجئ وإقرار الخدمة العسكرية الإلزامية… وقد بدا “لبنان الاشتراكي” قليل الحماسة لهذه المطالب التي لاحظ أنها تتوجّه إلى الحكومة. ولمّا كان التوجّه إلى الشعب هو المطلوب فقد أطلقت المجموعة فكرةً بديلة هي فكرة “اللجان الشعبية” المساندة للعمل الفلسطيني. وكانت مهمّة هذه اللجان أن تساعد الفدائيين فتؤمّن لهم الحماية والمخابئ للسلاح والمعلومات، إلخ. وكان إنشاء التحصينات والملاجئ انطلاقاً من هذه الصيغة للعلاقات بين الأهالي والمنظمات الفلسطينية والمناضلين اللبنانيين المؤيدين للكفاح الفلسطيني يصبح، بطبيعة الحال، موضوعاً لتقويم إيجابي. ولمّا كان عديد العناصر المنتمين إلى المجموعة قليلاً جدّاً في المنطقة الحدودية (أربعة عناصر أو خمسة، في أرجح الظن) وبالنظر أيضاً إلى الصعوبات الناجمة من طبيعة المهمّة المطروحة، فإن جهود المجموعة، في هذا المضمار، كانت قد أفضت بعد سنة من الزمن إلى نتائج زهيدة. هذا مع أن الرفاق لم يكونوا ادّخروا جهداً وكانوا قد أنشأوا صلات منتظمة مع ممثّلين للمنظمات الفلسطينية ومع مناضلين في تشكيلات لبنانية أخرى. والحقّ أن تحليل المجموعة للوضع القائم حينذاك في الجنوب الحدودي كان قد أدرك المشكل الأساسي فيه: وهو أن نشاط الفدائيين سيجرّ أعمالاً انتقامية إسرائيلية تثير نقمة الأهالي على الفدائيين. ولم تكن علامات التعاطف التي أبداها اللبنانيون الحدوديون حيال المقاتلين الفلسطينيين حائلةً دون هذا التطوّر قطعاً. لم تكن الصيغة المركّزة على “اللجان الشعبية”، وقد صدرت من جانب مثقّفين كان لأكثرهم أهلٌ في الجنوب، إلا مسكّناً. كان هؤلاء المثقفون الذين اكتشفوا “المجتمعات” غداة انفصال الوحدة المصرية السورية يضحّون الآن بواحدٍ من هذه المجتمعات. ولم يكن هذا المجتمع غير مجتمعهم هم الذي كانوا قد جهدوا لتدريب أنفسهم على الإصغاء إليه. صحيحٌ أنهم لم يكونوا يقدرون العامل الطائفي حقّ قدره فلم يتنبّؤوا صراحةً بصَدْعٍ يساير الخطّ التقليدي. ولكن كان يسعهم مذ ذاك أن يتبيّنوا تنامي المشاعر المعادية للفلسطينيين ومعها التفافٌ حول الجيش في سعيه إلى الحؤول دون توسّع الانتشار الفدائي. لم يكن هذا الالتفاف إجماعياً ولكن الصَدْع بدأ يرتسم على نحو مخالفٍ للترسيمة الطبقية المشتهاة إذ كان الأشدّ فقراً هم الأكثر تعرّضاً للخطر وهم الأشدّ عداءً، بالتالي، للقضية “العادلة”. في هذا السياق، وسع “لبنان الاشتراكي” أن يحذو حذو غيره فيلوك الكلام المتعلّق بـ”العداء للإمبريالية” بما هو عداءٌ مشترك بين الشعبين اللبناني والفلسطيني والكلام المتعلّق بإسرائيل بما هي “رأس الجسر” للإمبريالية… كان “التحليل الملموس للواقع الملموس”، وهو الذي أوصى به لينين وكان التنظيم بالِغَ التعلّق به، يشير إلى ضعف الطاقة التعبوية التي كان ينطوي عليها، في حبكة الظروف القائمة فعلاً، هذا الاشتراك في قضية واحدة.

    والواقع أن التنظيم كان قد عُني بتخليص خيوط الدور الفلسطيني من خيوط الدور اللبناني في الميدان. كان يوصي بدعم العمل الفلسطيني المسلّح ولكنه كان يلازم القول بوجود أهداف للّبنانيين تخصّهم وحدهم وعليهم أن يسعوا إليها وليس عليهم أن ينخرطوا في النضال المسلّح. وفي نطاق البلاد العربية، كانت المهمّة التي رآها ” لبنان الاشتراكي” سابقةً للجوء إلى العنف الثوري هي مهمّة “بناء الحزب الثوري”. كان الاعتراف قائماً بضرورة اللجوء إلى العنف في نهاية المطاف. ولكن بدا أن حلول هذه الضرورة، في ما يتّصل بلبنان، مرجأٌ إلى أجل غير مسمّى وأن ظهور السلاح الفلسطيني ليس بالعامل الكافي لإدراجها في جدول الأعمال.

    حسّياً كانت المجموعة في مأزق. فإن التطوّرات السياسية التي نشأت من تمدّد الحضور الفلسطيني في المنطقة الحدودية وكذلك في مخيمات اللاجئين وفي محيطها المديني ومعها تسارع عملّيات المقاومة وما كان يتبعها من ضربات إسرائيلية كانت تنشئ كلّها في البلاد مناخاً مختلفاً عن مناخ أواسط الستينات، وهو المناخ الذي كانت تكفي فيه حركة إضرابية يمكن وصفها بالمحدودة لتُمثّل تغييراً في وضع الخَدَر الاجتماعي والسياسي الذي ميّز السنوات الأخيرة من عهد فؤاد شهاب. وأما الآن فأخذ يسيطر على البلاد بالتدريج نوع من الاستعجال الذي راح يمثّل امتحاناً عسيراً لـ”أسلوب العيش” الذي اعتمده “لبنان الاشتراكي” وكان يقوم على تدبيج التحليلات وتنشئة الشبّان المناضلين والمبادرات الضئيلة النطاق في بعض المدارس أو الكليات أو الأحياء. كان ذلك كلّه يتسبب في شعورٍ منهِكٍ بضيق الأنفاس وبالإخفاق في التكيّف بحبكة ظروفٍ اتّسمت بتسارع التاريخ.

    كان “تحرير الذات” الذي أتاح الشعور به صوغُ خطٍّ يزعم لنفسه الصحة والنقدُ المتعجرف للحزب الشيوعي ولغيره من نسل “البرجوازية الوطنية” و”الطريق السلمي إلى الاشتراكية”، فضلاً عن التوصية باتّخاذ أهداف ذات مردود سياسي وأساليب في النضال والتنظيم ذات مفاعيل تربوية محرّرة… كان هذا كلّه ينقلب الآن إلى شعور بالعجز وبالافتقار إلى الكفاءة للتأثير في مجرى الأحداث الحاسمة التي كانت تتوالى. عاد نشاط المجموعة غير قادرٍ على الاستواء ترياقاً للاستلاب المتمثّل في المزاولة اليومية للمهنة. باتَ هذا  النشاط أقربَ إلى أن يكون مصدراً لوعيٍ شقيّ. كانت النفوس تَثْقُل لمرأى التنظيم في عزلته وفي شبه الشلل الذي حَكَم عليه به لزومه لأسلوبه في العيش.

    وما تشي به على الخصوص مطالعة التقارير الواردة من “الرفاق” في الجنوب والتحليلات المكرّسة للعلاقات اللبنانية الفلسطينية أن التنظيم كان عاجزاً عملياً عن الدخول في تحالف. فالواقع أنه كان – على ماسبقت الإشارة إليه – يشكو نفوراً غريزياً من التسويات، وهذا على الرغم من تصريحات تفيد غير ذلك. ولسوف يتبين أن هذا النفور طويل النفس. ففي سنة 1970، أجرى “لبنان الاشتراكي” اندماجاً مع الجناح اليساري من حركة القوميين العرب اللبنانية. كان عديد هذا التشكيل يبلغ خمسة أمثال “لبنان الاشتراكي” (الذي كان عدد أعضائه يراوح حول الخمسين) أو يبلغ ستة أمثاله. وكان التشكيل المذكور قد اعتمد أطروحات بلغت من القرب من أطروحات “لبنان الاشتراكي” مبلغاً جعل القول بالانتحال غير بعيد عن الصواب. وكان قد أطلق على نفسه اسم “منظّمة الاشتراكيين اللبنانيين”. ولقد أُبْرم الاندماج في “مؤتمرٍ” انعقد في نيسان 1971 بعد شهور من الإعداد ومن التحرير المشترك لأسبوعية “الحرّية”. هذه الأسبوعية، وهي الناطقة التاريخية باسم “حركة القوميين العرب”، كانت قد أصبحت إذ ذاك تحت تصرّف “منظمة الاشتراكيين اللبنانيين” وكان لها وضع قانوني تامّ الشرعية وجمهرةُ قرّاءٍ بقيت متواضعة ولكنها كانت أكبرَ بكثيرٍ من الجمهور الذي كانت تصل إليه نشرة “لبنان الاشتراكي” السرّية. عليه مثّلت “الحرّية” إغراءً معتبراً لمثقّفي “لبنان الاشتراكي”. ومن المؤتمر وُلدت “منظمة العمل الشيوعي في لبنان”. ولم يلبث التغيير في المناخ وفي المهمّات الذي أملاه حجم المنظّمة الجديدة ومعه اختلاف الأوّليات بين مناضلي المجموعتين واختلاف تصوّر العمل السياسي بين الأُطُر الذين أصبحوا يعملون معاً في الهيئات القيادية للمنظمة الجديدة أن أخذت تُبرز الطابع الوهمي للاندماج. هكذا راحت “منظمة العمل الشيوعي” تنتقل من أزمة إلى أزمة (وهو ما لم يحُلْ دون تضخّم صفوفها وقدرتها على التعبئة) إلى أن أدركها الانشقاق، في ربيع سنة 1973، إلى شطرين شبه متساويين من حيث الحجم. وكان عديدها يبلغ، في ذلك الوقت، نحواً من 700 عضو. وكانت إحدى الكتلتين تضمّ جميع العناصر القادمة من “لبنان الاشتراكي” على وجه التقريب، أو، على الأصحّ، من لم يكن قد ذهب بهم انشقاقٌ سابق تبع المؤتمر عن كثب. وفي غضون سنة تقريباً، انتهى هذا الجناح الذي كان قد أفصح أخيراً عن اعتماده الماوية، إلى الخروج من حيّز الوجود. وأما الجناح الآخر فصمد وقيّض له الانخراط في الحرب الأهلية. ومن حيث نحن اليوم، يسَعُنا القولُ إن “لبنان الاشتراكي”، بعد أن ضَجِر من الإقامة في المَأْزِق الذي حَبَسَه فيه تصوّرُه الطَموحُ لنفسه، قد أقدَمَ على الانتحار، حوالي سنة 1970، بإلقاء نفسه في ما سمّي لاحقاً “منظّمة العمل الشيوعي”.

     

    المصادر

    إشتراكيون لبنانيّون: العمل الاشتراكي وتناقضات الوضع اللبناني، دار الطليعة، بيروت 1969.

    وضّاح شرارة: “الرفاق”، في: استئناف البدء، دار الحداثة، بيروت 1981.

    فوّاز طرابلسي: صورة الفتى بالأحمر، منشورات رياض الريّس، لندن – بيروت 1997.

    لبنان الاشتراكي: مجموعة شبه كاملة لأعداد نشرة لبنان الاشتراكي ومعها نشرات ووثائق أخرى أصدرها هذا التنظيم بين عامي 1964 و 1970. مجموعة في مجلّدين، محفوظات أحمد بيضون.

    Fadi A. Bardawil: When All this Revolution Melts into AirThe Disenchantment of Levantine Marxist Intellectuals, Submitted in partial fulfillment of the Requirements for the degree of Doctor of Philosophy in the Graduate School of Arts and Sciences, Columbia University 2010.

     

    Agnès Favier: Logiques de l’Engagement et Modes de Contestation au Liban (Genèse et Éclatement d’une Génération de Militants Intellectuels), Thèse, ss. dir. d’Yves Schmeil, Université de Paul Cézanne, Aix-Marseille 3, 2004.

     

    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 facebook:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: “لبنان الاشتراكي” ظهور جماعةٍ من شبيبة “اليسار الجديد” ومسارها في لبنان الستّينات[1] Rating: 5 Reviewed By: غيوم
    Scroll to Top