728x90 شفرة ادسنس

  • اخر الاخبار

    الاثنين، 8 فبراير 2016

    "مشيخات الشباب" أو "الحارة – الأمة" في باب التبانة الطرابلسية


    محمد أبي سمرا


     من "منظمة الغضب" و"دولة المطلوبين" الى "المقاومة الشعبية" و"لجان المساجد"

     

    يروي هذا التحقيق فصولاً من "التاريخ" الاجتماعي الجزئي لحي باب التبانة الطرابلسي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، مستفيداً من دراسة للباحث الفرنسي الراحل ميشال سورا، ومعرجاً على نبذة عن "كتيبة فتح الطلابية" في بيروت.
    مشيخات الشباب
    هذا هو عربي، قال دليلي أبو داود، معرفاً بالشاب الذي التقيناه لدقيقتين او ثلاث امام مبنى "السنترال" بين باب التبانة وبعل محسن. لفظ كلمة "عربي" كما تلفظ اسماء اعلام لا تحتاج الى اضافة او تعريف، كي يدرك سامعها من هم اصحابها.
    وعربي هو اسم العلم الشخصي الذي منحه إبن باب التبانة خليل عكاوي، لإبنه البكر، كي يكون انتسابه الى "الأمة" التي "يناضل" لـ"تحريرها"، لصيقاً به التصاقاً دموياً، اي التصاق الاب بوليده، والوليد بأبيه ابو عربي.
    وأبو عربي، أي خليل عكاوي، هو "شيخ شباب" باب التبانة، و"المناضل" الفلسطيني الاصل والهوى، والثوري العروبي واليساري المنقلب الى هوى إسلامي خميني في الحقبة الاخيرة من مسيرته "النضالية"، ليصير احد ابرز "امراء" حركة التوحيد الاسلامي الطرابلسية تحت لواء الشيخ سعيد شعبان الراحل أمير امراء هذه الحركة التي حكمت طرابلس حكماً إسلامياً سلفياً دموياً قوّضه نظام البعث السوري واتباعه اللبنانيين، ووضعوا له نهاية اشد ترويعاً ودموية من بداياته، فقُتِلَ واغتيل معظم امرائه (ومنهم خليل عكاوي سنة 1986) وجماعاته المسلحة، او غُيِّبوا في ظلمات السجون البعثية في سوريا الاسد الأب.
    وكان الباحث الفرنسي ميشال سورا – المقيم في لبنان الثمانينات من القرن الماضي، قبل أن تخطفه مجموعة من إسلاميي الحركة الخمينية في لبنان ويُقتل في سجونها – قد كتب دراسة ميدانية عن العالم الاجتماعي لـ"مشيخات الشباب" منذ نشوئها في باب التبانة، استهلها بـ"مشيخة علي عكاوي، شقيق خليل عكاوي البكر او ابو عربي.
    ففي الستينات من القرن الماضي، أسس العكاوي البكر، بحسب دراسة سورا، "منظمة الغضب" التي جمع فيها شباناً من باب التبانة، محولاً "غضبهم" عصياناً اجتماعياً، قومياً عروبياً، ضد سلطات الدولة اللبنانية، وجعل "الموت في سبيل الشعب" شعار هذه المنظمة. والشعب في مخيلة "مشايخ الشباب" ومنظماتهم، هو اهالي الحارة او الحي الذين تستلهم "مشيخة الشباب" أو عصبتهم في الحارة، غضبهم وتمثله باعتباره غضب الشعب كله والأمة كلها، وباسمه خاضت "منظمة الغضب" معارك ضد شركة كهرباء قاديشا، كلما حاولت تحصيل فواتير الكهرباء المستحقة من الأهالي. وباسم هذا الغضب وشعبه وأمته (وهو الغضب إياه الذي جعلته منظمة "حزب الله" الشيعية والخمينية في لبنان، مصدر "سياستها" العامة)، راحت المنظمة الطرابلسية تقتصُّ من ما تسميهم "عملاء الشرعية"، اي رجال قوى الامن الداخلي وجهاز مخابرات "الشعبة الثانية" الذي تشير بعض الروايات الى أن عكاوي نفسه كان أحد "ازلامه" المحليين، قبل ان يساوره "الغضب الشعبي" وينشىء له منظمة و"مشيخة شباب" في الحي، او الحارة – الأمة. ومن اعمال المنظمة ايضاً، قيامها باعتماد ما يسميه الباحث الفرنسي "اللصوصية الاجتماعية" اسلوباً "نضالياً" لممارسة الحقد الطبقي والشعبي، ولتمويل منظمته في الحارة.
    من هذه الاعمال تفجير مصرف ونهبه، ونهب صيدلية ومتاجر للمواد الغذائية، وصولا الى القيام بانتفاضات منظمة تجلت اخيراً في اعلان 15 تشرين الأول 1971 "يوماً للغضب الشعبي".
    والأعمال هذه، أي النهب والتفجير واللصوصية، شاعت بداياتها عشية انفجار الحرب الأهلية الملبننة (1975) واعتُبرت عملاً "ثورياً". ففي الشياح، مثلاً، نهب شباب لبنانيون "فتحاويون" (أي ينتمون الى منظمة "فتح") متجراً للخرضوات على طريق صيدا القديمة، لأن صاحبه مسيحي.
    أما في رواية خليل عكاوي سيرة اخيه البكر ومسيرته التي كتبها ميشال سورا، فإن القيام بهذه الاعمال كان ضرورياً لتبقى "معنويات الشباب" مرتفعة ومشتعلة بالحقد والغضب اللذين ما كان لهما ان ينفجرا على هذا النحو او الشكل من دون خروج المنظمات الفلسطينية المسلحة على الدولة اللبنانية منذ سنة 1968. وهو الخروج الذي مدّت هذه المنظمات شبكاته الى الاحياء الشعبية الاسلامية في المدن اللبنانية وضواحيها، وجعلته مثالاً "ثورياً عروبياً" يحتذى، وانشأت له بؤراً مسلحة ومنظمة، منها "منظمة الغضب" في باب التبانة. ففي العام 1967، كان عمر خليل عكاوي 12 سنة حين جذبه هذا المثال وسحره، فقاده سيراً على الاقدام الى احد معسكرات منظمة "فتح" البعيدة، كي يصير فتى من فتيانها، لكن اهله اعادوه بالقوة الى المنزل، بحسب رواية صحافية لسيرته نُشرت بعد اغتياله سنة 1986.
    اما "منظمة الغضب" فقد استطاعت القوى الأمنية اللبنانية من تصفيتها في مطلع السبعينات من القرن الماضي. وذلك على خلفية الصلة الشخصية "الدافئة" بين الرئيسين، اللبناني سليمان فرنجية، والسوري حافظ الاسد. فالأول زعيم عشيرة في منطقة زغرتا المسيحية المتاخمة لطرابلس، وانتخب حديثاً رئيساً للجمهورية. والثاني استولى مع جناحه العسكري العلوي حديثاً على السلطة والرئاسة في سوريا، واراد حصر انتشار بؤر السلاح الفلسطيني بادارته الأمنية والسياسية الجديدة دون غيرها. وهكذا تبادل الرئيسان الجديدان "خدمات" موقتة وعابرة، ذهبت ضحيتها "منظمة الغضب" و"شيخ شبابها" علي عكاوي الذي اعتُقل وسُجن وتوفي في السجن سنة 1972، فورث عنه شقيقة الأصغر خليل "المشيخة"، وتابع مسيرته "الثورية النضالية" نصيراً لمنظمة "فتح" الفلسطينية المسلحة، وممتلئاً حقداً ثأرياً مزدوجاً ضد من اعتبرهما قتلة أخيه: الدولة اللبنانية ونظام حافظ الاسد البعثي في سوريا.
    ومن بؤر "اللصوصية الاجتماعية" التي يروي سورا سيرة خروجها على الدولة اللبنانية وقوانينها، بؤرة ما سُمي "دولة المطلوبين" في المدينة القديمة من طرابلس وأسواقها. وهي "الدولة" التي كان أحمد القدور رمزها الأبرز و"شيخ شبابها"، وقام الجيش اللبناني بالقضاء عليها بعدما حاصرها طوال شهر كامل من سنة 1974، فخرج بقايا شبانها من أسواق المدينة القديمة ولجأوا الى احياء شعبية في طرابلس: السويقة، ظهر المضر، القبة، وباب التبانة الذي كانت "مشيخة شباب" خليل عكاوي قد استعادت نشاطها وضاعفت قوتها فيه على إيقاع مقدمات الحروب الاهلية الملبننة. وهكذا تحولت "اللصوصية الاجتماعية" "عصياناً" أهلياً او "انتفاضة وطنية عروبية" سمَّت نفسها "المقاومة الشعبية" لـ"حماية المقاومة الفلسطينية" من "المؤامرات الإنعزالية" المسيحية، وللدفاع عن "كرامة" طرابلس و"شرفها" و"هويتها" و"ذاكرتها" و"اصالتها". وهذه كلها كانت المدينة القديمة وأسواقها بؤرتها وقلبها النابض في المخيلة الاهلية السياسية في طاربلس، قبل ان ينتقل هذان القلب والبؤرة الى باب التبانة ومشيخة شبابها التي سلحتها ودربتها منظمة "فتح".

    بين اليسارية والخمينية
    في اثناء الحملة العسكرية الاسرائيلية على المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان صيف 1982، نقلت رواية صحافية ان آلافاً من الطرابلسيين تجمعوا امام مسجد التوبة في مدينة طرابلس القديمة، وراحوا يبايعون الشيخ سعيد شعبان، خطيب المسجد وإمامه، "اميراً" اسلامياً سلفياً عليهم. وعلى مدخل المسجد وقف الشيخ – الامير لساعات يتقبل البيعة من مصافحيه واحداً واحداً، وسرعان ما بدأ المسلحون يظهرون في شوارع المدينة التي كان يسيطر عليها الجيش اللبناني.
    خليل عكاوي – مثل كثيرين غيره من العروبيين واليساريين، مناضلين ومثقفين واساتذة جامعات – كان قد بدأ يكتشف، منذ سنة 1979، قدرة الاسلام على تثوير جماهير الشعب والأمة، على مثال الثورة الاسلامية الخمينية في ايران. وهو جسّد اكتشافه هذا بإنشاء ما سماه "لجان المساجد والاحياء"، جاعلاً من المسجد واجتماع الناس ولقائهم وأدائهم الشعائر الدينية فيه، بؤرة نشاط "سياسي"، دعوي وتنظيمي، يمزج النضالية الشعبوية العروبية واليسارية بالنضالية الدينية الاسلامية.
    والاكتشاف هذا كان دارجاً في صور واشكال مختلفة في تلك الحقبة وبعدها. ومن صوره ما فعله كثير من المجموعات اليسارية اللبنانية، العروبية والفلسطينية الثقافة السياسية.

    الحارة – الأمة
    لم تكن الخمينية وإيحاءاتها والصلات بأجنحتها في الجمهورية الاسلامية الإيرانية، ودعمها، بعيدة عن نشاط الشيخ سعيد شعبان الاسلامي في طرابلس صيف 1982، ولا عن النشاط الجديد لـ"شيخ شباب" باب التبانة، خليل عكاوي، في "لجان المساجد والأحياء".
    فهذه جعلت كل "لجنة" منها المسجد و"ثقافته" عماد لحمتها الداخلية، واعتبرت أنها (أي اللجنة) نواة "سلطة شعبية"، بديلة او نقيضة للدولة، بل "مجتمعا نقيضاً" في الحارة. وذلك على غرار سلطة لجان "رابطة الشغيلة" التي تتلمذ فيها الفتى ناصر قنديل، وأنشأ مع فتيان مثله "سلطة شعبية" في حي التمليص في الطريق الجديدة سنة 1976.
    ويؤلف مجموع "لجان مساجد" الحارات الطرابلسية التي يدافع الشبان "العصاة" عن "حرمتها" و"شرفها" و"نقائها" و"هويتها"، ومنها يستمدون قوتهم، امة إسلامية، بعدما كانت هذه الأمة نفسها عربية، أيام كانت "مشيخة الشباب"، "مقاومة شعبية"، من أهدافها، بحسب ما ينقل ميشال سورا عن أحد شبانها، "أن يظل في مستطاعنا السير في الحي مرفوعي الرؤوس". ذلك ان الأمة، عربية كانت أم إسلامية، ليست سوى الحارة التي يجسد الشبان "أبطالها"، أي "قبضاياتها" او "فتواتها" الذين تشكل سيرة كل واحد منهم، وجهاً من وجوه "الفتى المتبطل" والعاطل عن العمل في مجتمع الحضيض الاجتماعي في باب التبانة.
    على صورة تلاطم الجماهير في ايران الخمينية ومثال ثورتها، راح "شيخ شباب" باب التبانة يحلم بالجماهير الاسلامية وأمواجها البشرية المتلاطمة. وتحت إلحاح هذا الحلم، شكل خليل عكاوي و"لجان مساجده وأحيائه" ركيزة من ركائز "إمارة" الشيخ سعيد شعبان الاسلامية السلفية في مدينة طرابلس، الى جانب "جند الله" و"حركة  لبنان العربي" التي تعود بأصولها الى "كتيبة فتح الطلابية". لكن الجمع هذا لم يكن في منأى من إيحاء "فتح" ياسر عرفات وإرادته، بعد خروجه من بيروت، مع مسلحي حركته وغيرها من المنظمات الفلسطينية، صيف 1982، تهيوءاً لعودته الى عاصمة الشمال اللبناني سنة 1983، وجعلها معقلا أو "ثغراً" عسكرياً لجنده، في مواجهة نظام سوريا الأسد الأب الذي كان لمخابراته دوراً بارزاً في شق حركة "فتح" وخروج جناحها المرابط في البقاع قرب الحدود السورية، عن "سلطتها المستقلة"، والتحاق هذا الجناح المعروف بـ"فتح الانتفاضة"، بالسياسات السورية الأسدية في لبنان.
    وفيما كانت بيروت وضاحيتها الجنوبية ومخيماتها الفلسطينية، تعيش حقبة حروب الخمينية في لبنان، والتي ستصير "حزب الله" سنة 1985، كانت في عداد "كتيبة فتح الطلابية" أو صدرت عنها. وتؤكد بعض الاخبار والروايات الصحافية ان الشيعي اللبناني والخميني، عماد مغنية – الذي اختفى منذ ثمانينات القرن الماضي حتى اغتياله في دمشق في 12 شباط 2008 – نشأ في أحضان "الكتيبة" الفتحاوي اياها، قبل ان يصير احد مؤسسي الحزب الخميني في لبنان.
    وفيما كانت بيروت وضاحيتها الجنوبية ومخيماتها الفلسطينية، تعيش حقبة حروب داخلية متناسلة، مدمرة ودموية، وجهتها الأبرز تثبيت السيطرة العسكرية للمنظمتين الشيعيتين المسلحتين، "أمل" و"حزب الله" (1983 -1986)، تمهيداً لعودة الجيش السوري الى العاصمة اللبنانية - كانت طرابلس تعيش الحقبة الأشد دموية وتدميراً في سلسلة حروبها بين الجيش السوري وأتباعه من بقايا "الحركة الوطنية اللبنانية" من جهة، ومعقل ياسر عرفات وملجئه العسكري الأخير في لبنان من الجهة الأخرى. وتنقل روايات صحافية أن المعقل الطرابلسي لعرفات، كان ملجأ لمجموعات "جهادية" إسلامية من بعض مناطق لبنان، إضافة الى مجموعات من "الإخوان المسلمين" في سوريا الأسد التي انتظرت من "حركة التوحيد الاسلامي" أن تطلب من الزعيم والقائد الفلسطيني الخروج من طرابلس، لتجنيبها مقاتلة الجيش السوري. وحين توجه مسؤولون في الحركة الى مقر عرفات في الزاهرية، وطلبوا منه عدم توريط المدينة في الحرب ضد سوريا، قال لهم مستعيراً لفتهم الاسلامية كي يحرجهم: "أنا مسلم يطلب النصرة".

    المدينة العاصية
    ميشال سورا يروي رواية تفصيلية، ومشهدية أحياناً، فصول هذه الحرب الطرابلسية في باب التبانة، فبكتب أن المعارك بين الحيين الشعبيين البائسين (باب التبانة السني، ومعقل خليل عكاوي، وبعل محسن العلوي) ما كانت لتنشأ وتتطور وتستمر وتشهد "الأمجاد في وسائل الإعلام العالمية"، لو لم تكن فصلا من "اللعبة السياسية الإقليمية، بل العالمية" في زواريب الحيين المذكورين. لذا سمى هذه الحرب "قيح" الصراع الحاد بين زعيم المقاومة الفلسطينية ونظام البعث الأسدي في سوريا.
    ويصف الباحث الفرنسي مسرح الحرب الطرابلسية، على النحو الآتي: "رشق ناري ينطلق من بعل محسن. أهالي باب التبانة وطرابلس بعدهم، لا يجدون أي صعوبة في فك طلاسم الرسالة النارية: السوريون يريدون إبلاغ ياسر عرفات بأن لا مصلحة له في هذا الشأن أو ذاك. أو هم يريدون إبلاغ رشيد كرامي (الزعيم الطرابلسي ورئيس الحكومة الراحل) بان عليه ألاّ ينسى هذا الأمر أو ذاك". وفي مثل هذه "المحادثة"، لا يشغل "مشايخ الشباب" ومسلحوهم في الأحياء، سوى دور ناقلي "رسائل مشفّرة" وسيلتها السلاح الذي "لا يقيم أي وزن للبشر وحياتهم في المدينة". والدليل الأسطع الذي يسوقه الباحث الفرنسي على اللامعنى العدمي للبشر والمدن في "السياسة" العروبية، من "مشيخات الشباب" حتى نظام حافظ الأسد الأمني في دمشق، هو قيام جيش هذا النظام في شباط 1982، بتدمير وسط مدينة حماة التاريخي على أهله وساكنيه، لإبادة جماعات "الإخوان المسلمين" السنة الخارجين على طاعة النظام العلوي. لذا ساور أهالي طرابلس في تلك الفترة هاجس الخوف من ان تلقى مدينتهم التي يتحصن فيها ياسر عرفات و"حركة التوحيد الاسلامي" السنية، مصير المدينة السورية المنكوبة.
    فـ"النكبات" جزء لا يتجزأ من تاريخ المدن العربية الاسلامية القديم والحديث، والتي يشكل الاجتماع الاسلامي والثقافة السياسية العروبية، ركن حياتها "السياسية" وركن علاقات جماعاتها التي تعيش "ريبة" تاريخية مديدة حيال الدولة وفكرتها.
    والجماعات هذه لا تجد حلولا لمشكلاتها المتفاقمة، وتصريفاً لصراعاتها ومنازعاتها المتمحورة على الهويات والعصبيات الأهلية والمذهبية والغلبة، إلا في الاحتكام الى السلاح والتدمير والإفناء والتبديد.
    وهذا وجه بارز من وجوه تاريخ طرابلس التي يسميها الرحالة الفرنسي فولني مدينة "عاصية"، ليرى سورا أنها استمرت في القرن العشرين على عصيانها في  أشكال متنوعة. ومن وجوه عصيانها إقدامها في محطات كثيرة من هذا القرن، على الخروج على الدولة اللبنانية الجديدة والمعاصرة التي نشأت في العشرينات عن التواصل والتداخل، ولو "الباردين" أحياناً، بين مجتمع جيل لبنان وبيروت. فطرابلس شاب صلتها بالدولة اللبنانية منذ نشوئها "نفور" ترجح بين الكتمان والاعلان، على خلفية شعورها بأن إنضمامها الى لبنان ودولته، يقطعها عن الداخل السوري والاسلامي والعربي، أي عن "هويتها" و"تاريخها".
    لذا عاشت على خوف على نفسها من لبنان، مقنّعة خوفها هذا بـ"الاستعلاء" عليه (لبنان) باعتباره "صنيعة الاستعمار والغرب". والخوف والاستعلاء والدونية لابست ايضاً نظرتها الى نفسها وبيروت، عاصمة الدولة الجديدة والناهضة مدينة حديثة ونامية للعصرنة الغربية. وهذا كله حمل طرابلس على الانكفاء على نفسها لتعيش على حنين قاتم الى زمن كانت فيه عاصمة ولاية عثمانية، والمرفأ الأكثر ازدهاراً على شواطىء المتوسط الشرقي حتى القرن الثامن عشر. والحنين هذا هو الذي حملها على أن تلهج بـ"العروبة الناصرية" في خمسينات القرن ا لعشرين وستيناته، وبـ"العروبة الفلسطينية" المسلحة التي ورثت في لبنان كله دور العروبة الناصرية، ومن رحمها ولدت   الحركات الاسلامية الشيعية الاصولية (حزب الله)، والجماعات السلفية السنية (حركة التوحيد الاسلامي الطرابلسية).

    العروة الوثقى والعنف
    لكن ما صلة هذا كله بباب التبانة و"مشيخات" شبابها؟
    ليست "مشيخات" باب التبانة إلا جزءاً من تاريخ المدينة "العاصية" وصورتها عن نفسها، بل هي (المشيخات) التعبير الاجتماعي الأهلي و"الاداة السياسية" لذلك "العصيان" الكامن، المكتوم والمؤجل، في انتظا ر أن يتحول انتفاضة، يرى شبان الحارة وشيخهم أنها صنيعة الأمة، وتستلهم روحها وتجسد أصالتها ونقاءها وهويتها الأصلية.
    هكذا يتحول قبضايات الأحياء وزمرهم من الفتيان والعاطلين المتبطلين، والعراة من النسب والرعاية الاسرية والعائلية وغيرها من الأواصر الاجتماعية الوسيطة، والساقطين الى حضيض المدينة الاجتماعي، حيث البؤس والرثاثة والعنف – يتحولون "أبطالا شعبيين" تضفي عليهم الحارة – الأمة هالات من "الشهامة" و"الإقدام" و"الشرف" و"النخوة" و"النضال" و"نصرة الضعفاء والفقراء". غير ان هذه "البطولة الشعبية" وصفاتها كلها، ليست سوى قناع "أخلاقي" و"أيديولوجي" صفيق لتصريف العنف تصريفاً أهلياً، عصبوياً  وثأرياً، بين جماعات أهلية وعصبية متناحرة.
    ميشال سورا يطلق صفة "العروة الوثقى" على اللحمة العصبية الداخلية التي تقوم بين شبان الحارة – الأمة. والعروة هذه التي تجمع بين شبان باب التبانة، لا وجود لها إلا اذا كانت على عداوات ثأرية مع جماعة حارة اخرى هي بعل محسن. والعداوات والثارات هذه ليست سوى الضرع الذي تتغذى منه الحرب الأهلية التي تتخذ أشكالا مختلفة: عصيانات وانتفاضات مسلحة، وحروب تحرير وتطهير دموية ومدمرة.
    والعنف الأهلي الذي تصرّفه جماعات "العروة الوثقى" في المدن "الحديثة" وضواحيها، هو عنف "حديث" او "محدث" في أشكال تنظيمه الاجتماعية وأهدافه واستراتيجياته. فهو يصدر عن منظمات أو اجهزة أهلية مسلحة، تتحصّن بالاهل وتتترّس بهم، والأهل يحتضنونها ويناصرونها ويطلبون حمايتها، فتتسلط عليهم تسلطاً ثقيلاً، غاشماً وقاسياً. لكن العنف والتسلط والقسوة هذه، انما هي وليدة تكديس البشر تكديساً عشوائياً وغير انساني، في ضواحي العمران العشوائي الذي يلابس العنف والتسلط والقسوة نسيج اجتماعها العائلي والاسري ملابسة داخلية حميمة. والنسيج هذا هو البطن الخصبة التي منها تستمد المنظمات والأجهزة المسلحة طاقتها ومقدرتها على العنف والتسلط حتى القتل والتدمير الذاتي.
    فمن "ناد للشبيبة" كان أمراء (على معنى آمر، وليس أمير) المجموعات المسلحة لـ"لجان المساجد والأحياء" يديرون العمليات العسكرية في باب التبانة ضد بعل محسن، على ما  وصف سورا أنهم حولوا "النادي" مركزاً لـ"قيادة" عملياتهم. و"جدران صالة النادي الداخلية من الاسمنت العاري غير المطلي بالدهان. وفي وسطها طاولة بنغ بونغ قديمة يكسوها الغبار، فيما ينطرح في احدى جنبات الصالة فراش مبقور قرب قطع اثاث معدنية مخلّعة ومهترئة. في غرفة داخلية صغيرة كالحة يشتغل مكيف هواء يرسل خريرا لا يتوقف. إنها غرفة القيادة، حيث كان بلال، الرجل الثاني، بعد خليل عكاوي، في "المقاومة الشعبية"، يجلس خلف مكتبه ممسكاً سماعة هاتف ليل نهار، متلقياً المعلومات حول سير المعارك، ومصدرا اوامره الى الشبان المقاتلين. فيهدىء النفوس، ويتصل بالقيادة المركزية، ويستقبل وجهاء من المدينة والاحياء، ويسعى الى وقف اطلاق النار، مقسماً ان لا علاقة لرجاله بخرق الاتفاق السابق على وقف إطلاق النار".
    الى هذه الغرفة التي "تعبق دائماً ببطولات اللحظات المجيدة ممزوجة بدخان التبغ الذي تدخن سجائره بشراهة وتوتر، كان يدخل المقاتلون ويخرجون حاملين اسلحتهم الحربية. البعض منهم يمكث في الصالة وقتاً او فرصة استراحة بين نوبتين خلف المتاريس في الشوارع. اما سكان الحي، أي اهل المقاتلين وجيرانهم، فكانوا شباناً وشيوخاً، يدخلون الى المقر ويخرجون، بعد استطلاع الاخبار ورفع معنويات المقاتلين".
    هذا الوصف الحسي او الحي لمقر من مقرات حروبنا الأهلية الملبننة، هل كان ميشال سورا يحدس فيما هو يكتبه أن خلية "سرية" ترى أنها تجسد أمة "المستضعفين" الإسلامية، سوف تخطفه في 22 أيار 1985، بعد خروجه من مطار بيروت، وتقتله بصفته واحداً من "مدنسي شرف" هذه الأمة ونقائها الخرافي؟

     
    رسالة أحدث
    السابق
    هذه اخر تدوينه
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 facebook:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: "مشيخات الشباب" أو "الحارة – الأمة" في باب التبانة الطرابلسية Rating: 5 Reviewed By: غيوم
    Scroll to Top